ميكانيكية ومواقع الخلل في شخصية «السايكوباث»
كثيرًا ما نسمع أو نقرأ ونطلع عن الشخصية المعتلة نفسيًّا أو ما تسمى بالمصطلح العلمي بالـ"السايكوباث" وهي دون شك تعني في أذهاننا الشخصية غير السوية التي تتصرف بنحو غير طبيعي في تعاملها مع الآخرين... الصفات السلبية في شخصية السايكوباث، وإن اختلفت في درجتها وشدتها، فهي تعتمد في أثرها وخطورتها الاجتماعية على طبيعة الوظيفة أو المركز أو المسؤولية التي تناط بهذه الشخصية. فالموظف السايكوباث ينتقد ويتشاجر ويستهجن من يراجعه ويتعامل معه من الناس، كما يعاكس وينافس شركاء العمل بطرق سلبية، المعلم السايكوباث يضطهد ويهين ويضرب ويهزأ بطلابه، الزوج السايكوباث يستعبد ويحتقر ويعبث بعواطف نصفه الثاني، والرئيس السايكوباث يربك بمقالبه وأفعاله موازين بلده فيذيق شعبه الأمرين وينتقم أشد الانتقام من كل من يعارضه أو يخالفه أو يشكل خطر عليه وهكذا تمتد الأمثلة على سائر المراكز والرتب. في كثير من الأحيان يفشل السايكوباث في تحقيق مآربه، الزائغة عن الطريق الصحيح، فيكلل الفشل والإحباط حياته العامة وقد يكون مصيره العزلة والتهميش أو العقوبة والسجن! غير أن السايكوباث حاذق الذكاء وقوي الشخصية أو من يحالفه الحظ وتخدمه الظروف قد ينجح في التسلق إلى ذروة الهدف الذي يبغيه ويرومه وهكذا قد ينجح في تسلم المسؤولية ويحكم السيطرة على رقاب الناس وهنا يحصل المأزق وتبدأ المعاناة.
لكل شخصيه سايكوباثيه أهدافها الخاصة التي تروم الوصول إليها وتستخدم المباح والممنوع على حد سواء للوصول إلى المأرب وتحقيق الهدف. حينما يتوجه السايكوباث إلى الهدف فهو لا يراعي المعوقات والممنوعات التي تقف في طريقه، فلا مكانة للضمير أو الرحمة أو الدين أو الأخلاق أو القيم أو المبادئ والأعراف. كل هذه الأمور لا تحدد حركته بل أنه قادر أن يستخدم شتى الوسائل المتدنية للوصول إلى ما يريد دون ندم أو أسف لكل ألم أو اضطهاد أو كارثه يوقعها في الآخرين. يرى دائمًا السايكوباث بأنه على حق وغيره على باطل وإذا حصل الذنب يرمي بأسبابه على أعناق الآخرين كما جاء في قول الشاعر "المجرم العصر والجانون أقوامي".... علامات اعتلال الشخصية تظهر في أكثر الأحيان منذ فجر الطفولة حيث يبدو الطفل عنيفًا مشاكسًا عنيدًا لا يأبه أو يخاف لتحقيق ما يريد، وهكذا ذهب العلماء إلى تحديد السبب في صناعة الشخصية السايكوباثيه إلى أصول جينية أي أن المرض قد ينتقل بالوراثة البسيطة من الآباء أو الأجداد أو عن طريق الطفرات الوراثية. كما بينت أبحاث بعض الأطباء وجود خلل في بعض مناطق الدماغ عند بعض السايكوباثيين، بينما راح فريق آخر يعزي بعض أسباب السايكوباثيه إلى آثار المحيط الخارجي ورواسب المجتمع.
ليس الهدف من هذا الموضوع هو إطلاع القارئ على أعراض هذا المرض وخصائصه وتأثيراته الاجتماعية، إذ أن هناك الكثير من التقارير التي تتحدث عن ذلك لا يجد القارئ صعوبة في الحصول عليها، إنما هدفي هو طرح نظرة جديدة عن ميكانيكية حصول الخلل في هذه الشخصية وعن موقع حدوثها. من أجل تحقيق هذا فلابد من تبيين وتوضيح نبذة مختصره عن معنى الشخصية بشكل عام، وعن عناصر صيرورتها وتكوينها. "في نظري وحسبما أعتقد" فإن شخصية الإنسان تعتمد على ثلاث عناصر رئيسيه في تكوينها وهي: عنصر المظهر وعنصر الجوهر وعنصر التصرف. أعني في عنصر المظهر شكل الإنسان وهندامه، أساليبه وتفاعلاته الخارجية، ملامح وجهه، مركزه الوظيفي والاجتماعي والمالي وغيرها من الأمور الظاهرة التي يكتشفها المرء في شخصية الغير والتي تكون واضحة للعيان وغير مخفيه. هذا العنصر ورغم أهميته يبقى ذي أثر سطحي في تحديد شخصية الإنسان الحقيقية. أما العنصر الثاني وهو الأعمق والأهم فهو عنصر "الجوهر" وأعني به منطقة الإحساس والإدراك عند الإنسان وهما العمق الحقيقي لشخصية الإنسان وأساس تصرفاته. فإن صحّ الإدراك واستوى الإحساس صلح التصرف وإن اختل الإدراك وانحرف الإحساس ساء التصرف. إذن طبيعة العنصر الثالث من عناصر الشخصية وأقصد به عنصر "التصرف" يعتمد اعتمادًا رئيسيًّا على طبيعة إدراك المرء وعلى نوع إحساسه أي بمعنى آخر يعتمد على جوهر الشخصية. أي تصرف من تصرفات الإنسان هو محصلة تفاعل إدراكه مع إحساسه.
السؤال الذي يطرح نفسه هو أين يوجد موقع الخلل في الشخصية السايكوباثيه أي في أي ركن من أركان الشخصية؟. الجواب قد لا يكون معقدًا أو غريبًا أن استنتجنا بأن الخلل سيكون في منطقة جوهر الشخصية وعلى وجه الخصوص في منطقة الإحساس.... حيث أن أهم ما يتميز به المعتل نفسيًّا هو أحاسيسه الزائغة التي تدفعه بعنف لتحقيق رغباته، هذه الأحاسيس تطغي في تأثيرها على مواقع الإدراك الفطري والمكتسب حيث أن السايكوباثي يدرك الممنوع ويتجاهله إن صار عائقًا أمامه. أعتمد في هذا الاستنتاج على حقيقة أن العامل الوراثي الذي يقف وراء اعتلال الشخصية لا يمكن أن يؤثر إلاّ على منطقة الجوهر لأن المظهر حصيلة ظروف خارجيه بينما الجوهر يصنعه الجين في بداية نشوئه. أما لماذا منطقة الإحساس هي المتأثرة وليس الإدراك فالجواب هو أن ليس هناك مظاهر مرضيه تصيب الإدراك عند هؤلاء المرضى، فالمريض قد يتمتع بطاقه فكريه وذكاء حاد وحذاقة في الإقناع وقابلية في كسب الناس من خلال لباقة الحديث أو إسداء وعود خياليه أو قابليه على التلفيق والكذب بكل أشكاله وأنواعه، بمعنى آخر أن القدرة على الخداع والحيلة عند هؤلاء مؤشر آخر على سلامة الطاقة الذهنية عندهم. فوق هذا وذاك، أن المرضى لا يعانون من هلاوس أو ضلالات فكريه بل ليس لديهم وهم حسي أو إحساسي كالذي يحصل في عاهات العقل عادة. حتى لو أبدت الشخصية السايكوباثيه علامات هوس أو ضلالة فهذا عمل مصطنع أمام الناس ووسيله لتحقيق غايه، إذ يستخدم الشخص المريض كافة قواه العقلية في إنجاح مغامراته من أجل الوصول إلى روح الهدف.
أهم ما يتصف به المريض السايكوباثي هو الأنانية المفرطة أو ما يسمى وحسب تصنيف عالم النفس سيجموند فرويد بالـ "هو" حيث يكون متجرد عن "الأنا الأعلى" أو الضمير، كما يتصف أيضًا بروح المغامرة المتجردة من الهواجس والتحسبات. هاتان الخاصيتان أي الأنانية المفرطة والمغامرة المتجردة تنبعثان من خلال طبيعة الرغبة الجامحة للسايكوباث في تحقيق مراده وهدفه بدون رادع خوف أو تحسب. يندفع المريض لتحقيق هدفه المبني على مشاعر حب الظهور أو التسلط أو الكسب المادي أو التسلق لكراسي السلطة في كل أنواعها وأشكالها أو من أجل الاستمتاع العاطفي أو الجنسي أو غيرها من الدوافع المرتبطة بأحاسيس المرء وعواطفه. رحلة الصعود نحو الهدف تكون عادة متجردة من الرحمة ومن الإنسانية فالغاية تبرر الوسيلة عنده، بل يستخدم المريض كل الوسائل الممكنة للوصول إلى هدفه بغض النظر عن كل الاعتبارات الإنسانية والاجتماعية والروحية فيعطي صورة للأناني المتطرف في درجات أنانيته. لا ينظر السايكوباث أو يعير أهمية للمخاطر التي تحيق برحلته نحو الهدف، فهو بالرغم من إدراكه لخطورة أو صعوبة المهمة إلاّ أنه يقتحم الساحة شاهرًا كل أسلحته المتجردة من تأنيب الضمير أو التحفظ عن مخالفة الدين والعقيدة أو من خوف صرخة المبادئ والأعراف والقيم...
من خلال هذا الطرح نجد أن أحاسيس المريض المبالغ فيها هي التي تطغي في جوهر الشخصية على مثابات إدراكه، فجوهر الشخصية الذي هو عبارة عن معادلة بين الإدراك والإحساس عند الشخص السوي سيختل فيه نظام هذه المعادلة عند السايكوباثيين. بمعنى آخر أن القرارات التي يتخذها المرء السوي تكون عادة تحت إشراف الإدراك وتفاعل الإحساس، فقد يتطابق إدراك المرء مع إحساسه وينطلق التصرف بالإجماع أو قد تفوز كفة إدراك المرء على إحساسه في قرار التصرف أو على العكس ينتصر إحساس المرء على إدراكه فيتصرف منحازًا لمتطلبات عواطفه، أي أن هناك موازنه مستمرة بين عقل المرء وإراداته العاطفية ودور تفاعلي وتأثير لكل منهما على الآخر ينتج عن ذلك مؤخرًا التصرف.
في الحالات الاستثنائية "عند الأسوياء" كحالة الصراع المزمن بين إدراك المرء وإحساسه فأنه يحصل ما يلي: عندما ينتصر الإدراك في صراعه مع الإحساس وبشكل متكرر ومستمر وتحجّم العواطف دائمًا قد تحصل حالة "الكبت" التي تولد إن استشرت وتفاقمت القلق النفسي والكآبة عند الإنسان. أما لو كانت نتائج صراع العقل مع العاطفة هو فوز العاطفة على ما يمليه العقل والدراية ففي هذه الحالة يحصل الأسف والندم وتأنيب الضمير. في حالة الشخصية السايكوباثيه يهمّش الإدراك في جوهر الشخصية من المشاركة في اتخاذ القرار فتكون الكفة عادة لصالح العاطفة وللرغبة الجامحة في صنع القرار والإيعاز بالتصرف، أي أن إدراك المرء بكل أنواعه الفطرية أو المكتسبة مستسلم لإيعاز العواطف. من هنا تظهر التصرفات الارتجالية المتجردة من الأصول والمفاهيم العامة والتي تسبب في كثير من الأحيان صدمة لمن يعايشها أو يسمع بها. من هذا المنطلق نستطيع أيضًا تفسير غياب تأنيب الضمير أو الشعور بالندم والأسف عند السايكوباث حينما تظهر نتائج تصرفه الخاطئ، حيث أن هذا التصرف هو حصيلة قرار الإحساس دون مشاركة أو على الأقل، دون معارضة الإدراك، أي أن التصرف يحصل بدون معاناة صراع فكري عاطفي مرير كما يحصل عند الأسوياء حينما يتغلب ميزان العاطفة على العقل وينتج عنه الأسف أو تأنيب الضمير وكما أوردناه أعلاه.
السايكوباثيون يشكلون أكثر من ربع مرتكبي الجرائم في المجتمعات ونسبة حملة جين السايكوباثيه في المجتمع تكون واحد من بين كل مئة شخص. ينتقل الجين المرضي مع الكروموسوم الجنسي
"X" من الآباء الى الأبناء وهذا ما يجعل نسبة الذكور المصابين به أكثر من نسبة النساء بكثير. لا يوجد دواء نجده في الصيدليات للسايكوباثيين إنما على المجتمعات أن تتجنب فسح المجال لهؤلاء من اقتناص الأماكن الحساسة في المجتمع وأن لا تسمح لهم في التسلق بحبل السياسة أو الاستيلاء على مراكز المسؤولية مهما كان نوعها لأن تسلطهم على رقاب الغير أو على ممتلكاتهم أو مصالحهم الخاصة والعامة يعني الإساءة لهم. كما أن التزاوج بهؤلاء قد يفضي بنتائج سلبية على مستقبل العائلة ووحدة كيانها، حيث أن هؤلاء يستعملون العنف والتسلط عادة ويطعنون الثقة مع شركاء حياتهم وهذا ما قد يؤدي مؤخرًا إلى الطلاق وخراب وحدة العائلة!. إهمال المجتمعات لأمراضها الاجتماعية قد يكون أشد وباءًا من إهمالها لأمراضها النفسيّة والجسدية، لأن تسلط المعلول اجتماعيًا على شؤون المجتمع قد يؤدي إلى كوارث ومحن.....!
د. محمد مسلم الحسيني
أخصائي علم الأمراض - بروكسل