في معارك الرسول الحربية _الجزء الرابع
الكاتب : الدكتور/ مصطفى السباعي
17☀ وفي قبوله صلى الله عليه وسلم إشارة بحفر الخندق ، وهو أمر لم تكن تعرفه العرب من قبل ، دليل على أن الاسلام لا يضيق ذرعاً بالاستفادة مما عند الأمم الأخرى من تجارب تفيد الأمة وتنفع المجتمع فلا شك أن حفر الخندق أفاد إفادة كبرى في دفع خطر الأحزاب عن المدينة ،وقبول رسول الله هذه المشورة ، دليل على مرونته صلى الله عليه وسلم ، واستعداده لقبول ما يكون عند الأمم الأخرى من أمور حسنة ، وقد فعل الرسول مثل ذلك أكثر من مرة ، فلما أراد إنفاذ كتبه إلى الملوك والأمراء والرؤساء قيل له : أن من عادة الملوك ألا يقبلوا كتاباً إلا إذا كان مختوماً باسم مرسله ، فأمر على الفور بنقش خاتم له كتب عليه : محمد رسول الله ، وصار يختم به كتبه ، ولما جاءته الوفود من أنحاء العرب بعد فتح مكة تعلن إسلامها ، قيل له : يا رسول الله إن من عادة الملوك والرؤساء أن يستقبلوا الوفود بثياب جميلة فخمة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى له حلة ، قيل : إن ثمنها بلغ أربعمائة درهم ، وقيل : أربعمائة بعير ، وغدا يستقبل بها الوفود ، وهذا هو صنيع الرسول الذي أرسل بآخر الأديان وأبقاها إلى أبد الدهر ، فان مما تحتمه مصلحة أتباعهه في كل زمان وفي كل بيئة أن يأخذوا بأحسن ما عند الأمم الأخرى ، مما يفيدهم ، ولا يتعارض مع أحكام شريعتهم وقواعدها العامة ، والامتناع عن ذلك جمود لا تقبله طبيعة الاسلام الذي يقول في دستوره الخالد : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ )[ الزمر : 18.17 ] ولا طبيعة رسوله رأينا أمثلة عما أخذ من الامم الاخرى ، وهو القائل : " الحكمة ضالة المؤمن يتلمسها أني وجدها " ويوم غفل المسلمون في العصر الأخير ، وخاصة بعد عصر النهضة الاوروبية عن المبدأ العظيم في الاسلام ، وقاموا كل إصلاح مأخوذ عن غيرهم مما هم في أشد الحاجة . اليه ، أصيبوا بالانهيار ، وتأخروا من حيث تقدم غيرهم ( وَللهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ) [ الحج : 41] .
<><>
18☀ ومن صايا رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيش الإسلامي في " غزوة مؤتة " طابع الرحمة الإنسانية في قتال الإسلام ، فهو لا يقتل من لا يقاتل ، ولا يخزي ما يجده في طريقه إلا لضرورة ماسة ، وقد التزم أصحابه من بعده والمسلمون في مختلف العصور ، بعد ذلك هذه الوصايا ، فكانت حروبهم أرحم حروب عرفها التاريخ ،وكانوا وهم محاربون أشد رحمة من غيرهم وهم مسالمون ، والتاريخ قد سجل للمسلمين صفحات بيضاء في هذا الشأن ، كما سجل لغيرهم صفحات سوداء ، ولا يزال يسجلها حتى اليوم ،ومن منا لا يعرف الوحشية التي فتح بها الصليبيون بيت المقدس ، والإنسانية الرحيمة التي عامل بها صلاح الدين الفرنجة حين استردها ، ومن منا لا يذكر وحشية الأمراء والجنود الصليبيين حين استولوا على بعض العواصم الإسلامية ، كطرابلس ، والمعرة وغيرها ، مع رحمة الأمراء والجنود المسلمين حين استردوا تلك البلاد من أيدي محتليها الغاصبين ، ونحن اليوم نعيش في عصر النفاق الأوروبي في أدعاء الحضارة والرحمة الإنسانية وحب الخير للشعوب ، وهم يخربون البلاد ، ويسفكون دماء العزل من الشيوخ والنساء والأطفال ، ولقد عشنا ـ بكل أسف ـ عصر قيام إسرائيل على أرض فلسطين السليبة ، وعلمت الدنيا فظائع اليهود الهمجية الوحشية في دير ياسين ، وقبية ، وحيفا ، ويافا ، وعكا ، وصفد وغيرها من المدن والقرى ، ومع ذلك فهم يدعون الانسانية ، ويعملون عكسها ،ونحن نعمل للإنسانية ، ولا نتشدق بها ، ذلك أننا شعب نحمل في نفوسنا حقاً أجمل المبادئ الأخلاقية في السلم والحرب وننفذها براحة ضمير واطمئنان ، بينما هم مجردون من هذه المبادئ داخل نفوسهم ، فلا يجدون غير المناداة بها نفاقاً وتخديراً ، نحن شعب نؤمن بالله القوي الرحيم ، فلا تكون قوتنا إلا رحمة ، وهم شعب يرون من النفاق أن ينكروا علينا وصف الله بالقوة والبطش ، زاعمين أنهم ينعتونه بالحب والرحمة ، فما كان لعلاقتهم من الشعوب وحروبهم مع المسلمين ومع أعدائهم من أبناء ملتهم أثر لهذا الحب ولهذه الرحمة ، نحن شعب ما كانت حروبنا إلا لخير الإنسانية ، فكنا أبر الناس بها ، وهم قوم ما كانت حروبهم إلا للغزو والسلب والتسلط والاستعمار ،فكانوا أعدى الناس لها .
ومع ذلك فنحن اليوم في حروبنا معهم إنما ندافع عن أرض وحق وكرامة ،فلن يجدينا التغني بمبادئنا مع قوم لا يفهمون مبادئ الرحمة والشرف والإنسانية ، بل يجب علينا أن نستمر في كفاحنا لهم ، متمسكين في معاركنا معهم بمبادئ رسولنا وشريعتنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، وهو أحكم الحاكمين .
19 ☀ إن الجيش إذا كان غير متساوي في الحماس والإيمان والإخلاص ، بل كان فيه المتخاذلون والمرتزقة والمتهاونون ، لا يمكنه أن يضمن النصر على اعدائه ، كما حصل في " غزوة حنين "، وكذلك شأن الدعوات لا يمكنها أن تعتمد على كثرة المصفقين لها ، بل على عدد المؤمنين بها المضحين في سبيلها .
<><>
20 ☀ ودرس آخر نستفيده من سيرة الرسول في حروبه ومعاركه ، هو موقفه من اليهود ، وموقف اليهود منه ومن دعوته ، فلقد حرص الرسول أول مقامه بالمدينة أن يقيم بينه وبينهم علاقة سلم ، وأن يؤمنهم على دينهم وأموالهم ،وكتب لهم بذلك كتاباً ، ولكنهم قوم غدر ، فما لبثوا غير قليل حتى تآمروا على قتله ، مما كان سبباً في " غزوة بني النضير" ثم نقضوا عهده في أشد المواقف حرجاً " يوم الأحزاب " مما كان سبباً في "غزوة بني قريظة " ، ثم تجمعوا من كل جانب يهيئون السلاح ويبيتون الدسائس ، ويتجمعون ليقضوا في غدر وخسة على المدينة والمؤمنين فيها ، مما كان سبباً في " غزوة خيبر " .
هؤلاء قوم لا تنفع معهم الحسنى ، ولا يصدق لهم وعد ، ولا يستقيم لهم عهد فهل كان على النبي من حرج فيما فعله بهم ؟ وهل كان عليه أن يتحمل دسائسهم وخياناتهم ونقضهم للعهود فيعيش هو وأصحابه دائماً في جو من القلق والحذر وانتظار الفتنة والمؤامرات ؟ لقد ضمن النبي صلى الله عليه وسلم بحزمه معهم حدود دولته الجديدة ، وانتشار دعوته في الجزيرة العربية كلها ، ثم من بعد ذلك إلى أرجاء العالم ولا يلوم النبي على حزمه معهم إلا يهودي أو متعصب أو استعماري وها هي سيرة اليهود في التاريخ بعد ذلك ، ألم تكن كلها مؤامرات ودسائس وإفساداً وخيانة ؟ ثم ها هي سيرتهم في عصرنا الحديث هل هي غير ذلك ؟ ولقد كان فينا قبل حرب فلسطين وقيام اسرائيل فيها من يخدع بمعسول كلامهم فيدعو إلى التعاون معهم ، وكان فينا من يساق إلى دعوة التعاون معهم من قبل أصدقائهم من الدول الكبرى ، وكانت نتيجة ذلك التخاذل في معالجة قضية فلسطين ، أما بعد ذلك فلا يوجد من يغتر بهم ، وليس لنا سبيل التخلص من شرهم إلا حزم كحزم الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملتهم لنطمئن على بلادنا ولنتفرغ لدورنا الجديد المقبل في حمل رسالة الاسلام والسلام إلى شعوب الأرض قاطبة . تلك أمانة نؤديها بصدق وإيمان إلى الجيل الجديد عساه يستطيع أن يفعل ما لم يستطيع فعله جيلنا المتخاذل .
21☀ وفي غزوة مؤتة كان أول لقاء بين المسلمين والروم ، ولولا أن العرب الغساسنة قتلوا رسول رسول الله إلى أمير بصرى ، لكان من الممكن أن لا يقع الصدام ، ولكن قتل رسوله إلى أمير بصرى يعتبر عملاً عدائياً في جميع الشرائع ، ويدل على عدم حسن الجوار ، وعلى تثبيت الشر من هؤلاء عمال الروم وصنائعهم ، ولذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسال جيش مؤتة ليكون فيه إنذار لهم ولسادتهم الروم بقوة الدولة الجديدة واستعدادها للدفاع عن نفسها حتى لا يفكروا بالعدوان عليها ، ولما وصل المسلمون إلى مؤتة وجدوا جموعاً من الروم ومن العرب الخاضعة لحكمهم قدرها المؤرخون بمائتي ألف ، وكان أخو هرقل قد قاد هذا الجيش وعسكر في " مآب " قرب عمان اليوم ، مما يؤكد ما توقعه الرسول منهم في التصميم إلى مناجزة الدولة الجديدة والقضاء عليها توجساً من قيام دولة عربية مستقلة داخل الجزيرة العربية تكون نذيراً بانتهاء استعمارهم لبلادهم واستعبادهم لعربها القاطنين على حدودها مما يلي الحجاز ، وهكذا بدأت المعارك بين المسلمين والروم .
22☀ وفي غزوة تبوك أو العسرة آيات بينات على ما يفعله الإيمان الصادق في نفوس المؤمنين من إثارة عزائمهم للقتال واندفاع أيديهم في بذل المال ومن استعذابهم الحر والعناء والتعب الشديد في سبيل الله ومرضاته ، ولذلك لما تخلف ثلاثة من المؤمنين الصادقين في إيمانهم عن هذه الغزوة من غير عذر ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمقاطعتهم ، فامتنع أزواجهم وآباؤهم عن مكالمتهم فضلاً عن جمهور المسلمين ، مما أضطر بعضهم إلى ربط نفسه بعمد المسجد ، وآخر إلى احتباس نفسه في البيت ، حتى تاب الله عليهم بعد أن أخذ المسلمون درساً بليغاً فيمن يتخلف عن أداء الواجب لغير عذر ، إلا أن يؤثر الراحة على التعب ، والظل الظليل على حر الشمس وشدتها .
<><>
23☀ أما فتح مكة ، ففيها من الدروس والعظات ماتضيق عن شرحه هذه الصفحات القائلة ، ففيها نجد طبيعة الرسول صلى الله عليه وسلم الداعية الذي لا يجد الحقد على مقاوميه ، فقد من عليهم بعد كفاح استمر بينه وبينهم إحدى وعشرين سنة لم يتركوا فيها طريقاً للقضاء عليه وعلى أتباعه وعلى دعوته إلا سلكوها ، فلما تم له النصر عليهم ، وفتح عاصمة وثنيتهم ، لم يزد على أن استغفر لهم ، وأطلق لهم حريتهم ، وما يفعل مثل هذا ولا فعله في التاريخ أحد، ولكن يفعله رسول كريم لم يرد بدعوته ملكاً ولا سيطرة ، وإنما أراد له الله أن يكون هادياً وفاتحاً للقلوب والعقول ، ولهذا دخل مكة خاشعاً شاكراً الله ، لا يزهو كما يفعل عظماء الفاتحين .
24☀ وفيما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة حكمة أخرى ، فقد علم الله أن العرب سيكونون حملة رسالته إلى العالم . فأبقى على حياة أهل مكة وهم زعماء العرب ليدخلوا في دين الله ، ولينطلقوا بعد ذلك إلى حملة رسالة الهدى والنور إلى الشعوب ، ويبذلون من أرواحهم وراحتهم ونفوسهم ما أنقذ تلك الشعوب من عمايتها ، وأخراجها من الظلمات إلى النور .
25☀ وآخر ما نذكره من دروسها ودروس معاركة الحربية ، هي العبرة البالغة بما وصلت اليه دعوة الله من نصر في أمد لا يتصوره العقل ، وهذا من أكبر الأدلة على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى أن الاسلام دعوة الله التي تكفل بنصرها ونصر دعاتهم والمؤمنين بها والحاملين للوائها ، وما كان لله أن يتخلى عن دعوته وهي حق ورحمة ونور ، والله هو الحق وهو الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ، والله نور السموت والأرض ، فمن يستطيع أن يطفئ نور الله ! . وكيف يرضى للباطل أن ينتصر النصر الأخير على الحق ، وللهمجية والقسوة والفساد أن تكون لها الغلبة النهائية على الرحمة والصلاح . ولقد أصاب رسول الله والمسلمين جراح في معركتي أحد وحنين ، ولا بد في الدعوة من ابتلاء وجراح وضحايا ( وَليَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ ، إنَّ اللهَ لقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [ الحج : 40 ]