منذ الهجرة حتى استقرار النبي في المدينة
الكاتب : الدكتور/ مصطفى السباعي
آ ـ الوقائع التاريخية
1- علمت قريش باسلام فريق من أهل يثرب ، فاشتد أذاها للمؤمنين بمكة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة ، فهاجروا مستخفين ، إلا عمر رضي الله عنه ، فإنه اعلم مشركي قريش بهجرته ، وقال لهم : من أراد أن تثكله أمه فليلحق بي غداً ببطن هذا الوادي ، فلم يخرج له أحد .
2- ولما أيقنت قريش أن المسلمين قد أصبحوا في المدينة في عزة ومنعة ، عقدت مؤتمرات في دار الندوة للتفكير في القضاء على الرسول نفسه ، فاستقر رأيهم على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتى جلداً ، فيقتلوه جميعاً ، فيتفرق دمه في القبائل ، ولا يقدر بنو مناف على حربهم جميعاً ، فيرضوا بالدية ،وهكذا اجتمع الفتيان الموكلون بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم على بابه ليلة الهجرة ينتظرون خروجه ليقتلوه .
3- لم ينم الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الليلة على فراشه . وإنما طلب من علي رضي الله عنه أن ينام مكانه ، وأمره إذا أصبح أن يرد الودائع التي كان أودعها كفار قريش عنده إلى أصحابها ، وغادر الرسول صلى الله عليه وسلم بيته دون أن يشاهده الموكلون بقتله ، وذهب إلى بيت أبي بكر ، وكان قد هياً من قبل راحلتين له وللرسول صلى الله عليه وسلم ، فعزما على الخروج ، واستأجر أبو بكر عبد الله بن أريقط الديلي وكان مشركاً ليدلهما على طريق المدينة ، على أن يتجنب الطريق المعروفة إلى طريق أخرى لا يهتدي اليها كفار قريش .
4- خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبوبكر يوم الخميس أول يوم من ربيع الأول لسنة ثلاث خمسين من مولده عليه الصلاة والسلام ، ولم يعلم بأمر هجرته إلا علي رضي الله عنه وآل أبي بكر رضي الله عنه ، وعلمت عائشة وأسماء بنتا أبي بكر في تهيئة الزاد لهما ، وقطعت أسماء قطعة من نطاقها ـ وهو ما يشد به الوسط ـ فربطت به على فم الجراب ـ وعاء الطعام ـ فسميت لذلك : ذات النطاقين ، واتجها مع دليلهما عن طريق اليمن حتى وصلا إلى " غار ثور " ، فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف " حاذق " لقن "سريع الفهم" فيخرج من عندهما بالسحر ، ويصبح مع قريش بمكة كأنه كان نائماً فيها ، فلا يسمع من قريش أمراً يبيتونه من المكروه لهما إلا وعاه حتى يأتيهما في المساء بخبره .
5- قامت قيامة قريش لنجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وخرجوا يطلبونه في طريق مكة المعتاد ، فلم يجدوه ، واتجهوا إلى طريق اليمن ،ووقفوا عند فم " غارثور " و أبو بكر رضي الله عنه يرى أقدامهم وهم واقفون على فم الغار ، فيرتعد خوفاً على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول له : والله يا رسول الله ، ولو نظر أحدهم على موطئ قدمه لرآنا ، فيطمئنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ؟
6- أرسلت قريش في القبائل تطمع كل من عثر على الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، أو قتله ، أو أسره ، في دفع مبلغ ضخم من المال يغري الطامعين ، فانتدب لذلك سراقة بن جعشم ، وأخذ على نفسه أن يتفقدها ليظفر وحده بالجائزة .
7- قال بن شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي عبد الرحمن بن مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ وهو بن أَخِي سُرَاقَةَ بن مَالِكِ بن جُعْشُمٍ أَنَّ أَبَاهُ أخبره أَنَّهُ سمع سُرَاقَةَ بن جُعْشُمٍ يقول جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ في رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لمن قَتَلَهُ أو أَسَرَهُ فَبَيْنَمَا أنا جَالِسٌ في مَجْلِسٍ من مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ منهم حتى قام عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ فقال يا سُرَاقَةُ إني قد رأيت آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ قال سُرَاقَةُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ فقلت له إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا ثُمَّ لَبِثْتُ في الْمَجْلِسِ سَاعَةً ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ من وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ من ظَهْرِ الْبَيْتِ فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حتى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حتى دَنَوْتُ منهم فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عنها فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إلى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ منها الْأَزْلَامَ فَاسْتَقْسَمْتُ بها أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا فَخَرَجَ الذي أَكْرَهُ فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ تُقَرِّبُ بِي حتى إذا سمعت قِرَاءَةَ رسول اللَّهِ e وهو لَا يَلْتَفِتُ وأبو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي في الأرض حتى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عنها ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ فلم تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا فلما اسْتَوَتْ قَائِمَةً إذا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ في السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ الذي أَكْرَهُ فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حتى جِئْتُهُمْ وَوَقَعَ في نَفْسِي حين لَقِيتُ ما لَقِيتُ من الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رسول اللَّهِ e فقلت له إِنَّ قَوْمَكَ قد جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ ما يُرِيدُ الناس بِهِمْ وَعَرَضْتُ عليهم الزَّادَ وَالْمَتَاعَ فلم يَرْزَآنِي ولم يَسْأَلَانِي إلا أَنْ قال أَخْفِ عَنَّا فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لي كِتَابَ أَمْنٍ فَأَمَرَ عَامِرَ بن فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ في رُقْعَةٍ من أَدِيمٍ ثُمَّ مَضَى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
8- وصل الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول وبعد أن طال انتظار أصحابه له ، يخرجون كل صباح إلى مشارف المدينة ، فلا يرجعون إلا حين تحمى الشمس وقت الظهيرة ، فلما حضر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة فرحوا به فرحاً عظيماً ، وأخذت الولائد ينشدون بالدفوف :
طلع البدر علينا ***من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا *** جئت بالأمر المطاع
9ـ كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة قد وصل إلى " قباء " وهي قرية جنوب المدينة على بعد ميلين منها ، فأسس فيها أول مسجد بني في الإسلام ، واقام فيها أربعة أيام ، ثم سار صباح الجمعة إلى المدينة ، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف ، فبني مسجداً هناك ، وأقام أول جمعة في الإسلام ، وأول خطبة خطبها في الاسلام ، ثم سار إلى المدينة ، فلما وصلها كان أول عمل عمله بعد وصوله أن أختار المكان الذي بركت فيه ناقته ليكون مسجداً له ، وكان المكان لغلامين يتيمين من الأنصار ، فساومهما على ثمنه ، فقالا : بل نهبه لك يارسول الله ، فأبي إلا يبتاعه منهما بعشرة دنانير ذهباً أدَّاها من مال أبي بكر ، ثم ندب المسلمين إلى الاشتراك في بناء المسجد فأسرعوا إلى ذلك ، وكان صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن ، حين تم بناء المسجد ، جدرانه من لبن ، وسقفه من جريد النخل مقاماً على الجذوع .
10ـ ثم كان أن آخى المهاجرين والأنصار ، فجعل لكل أنصاري اخاً من المهاجرين ، فكان الأنصاري يذهب بأخيه المهاجر على بيته ، فيعرض عليه يقتسم معه كل شيء في بيته .
11ـ ثم كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه اليهود ، وأقرهم على دينهم وأموالهم ، وقد ذكر ابن هشام هذا الكتاب بطوله في سيرته ، وهو يتضمن المبادئ التي قامت عليها أول دولة في الإسلام ، وفيها من الانسانية والعدالة الاجتماعية والتسامح الديني والتعاون على مصلحة المجتمع ما يجدر بكل طلب أن يرجع إليه ويتفهمه ويحفظ مبادئه .
ونحن نذكر المبادئ العامة التي تضمنتها هذه الوثيقة التاريخية الخالدة :
1- وحدة الامة المسلمة من غير تفرقة بينها .
2- تساوي أبناء الأمة في الحقوق والكرامة .
3- تكاتف الأمة دون الظلم والإثم والعدوان .
4- اشتراك الأمة في تقرير العلاقات مع أعدائها لا يسالم مؤمن دون مؤمن .
5- تأسيس المجتمع على أحسن النظم وأهداها وأقومها .
6- مكافحة الخارجين على الدولة ونظامها العام ، وجوب الامتناع عن نصرتهم .
7- حماية من أراد العيش مع المسلمين مسالماً متعاوناً ، والامتناع عن ظلمهم والبغي عليهم .
8- لغير المسلمين دينهم وأموالهم ، لا يجبرون على دين المسلمين ، ولا توخذ منهم أموالهم .
9- على غير المسلمين أن يسهموا في نفقات الدول كما يسهم المسلمون .
10- على غير المسلمين أن يتعاونوا معهم لدرء الخطر عن كيان الدولة ضد كل عدوان .
11- وعليهم أن يشتركوا في نفقات القتال مادامت الدولة في حالة حرب .
12- على الدولة أن تنصر من يظلم منهم ، كما تنصر كل مسلم يعتدي عليه .
13- على المسلمين وغيرهم أن يمتنعوا عن حماية أعداء الدولة ومن يناصرهم .
14- إذا كانت مصلحة الأمة في الصلح ، وجب على جميع أبنائها مسلمين وغير مسلمين أن يقبلوا بالصلح .
15- لا يؤاخذ إنسان بذنب غيره ، ولا يجني جان إلا على نفسه وأهله .
16-حرية الانتقال في داخل الدولة وإلى خارجها مصونة بحماية الدولة.
17-لا حماية لآثم ولا لظالم .
18- المجتمع يقوم على أساس التعاون على البر والتقوى ، لا على الإثم العدوان
19- هذه المبادئ تحميها قوتان :
قوة معنوية ،وهي : إيمان الشعب بالله ومراقبته له ورعاية الله لمن بر و وفى.
وقوة مادية ، وهي : رئاسة الدولة التي يمثلها محمد صلى الله عليه وسلم .
<><>
منذ الهجرة حتى استقرار النبي في المدينة
ب ـ الدروس والعظات
1- إن المؤمن إذا كان واثقاً من قوته لا يستخفي في عمله ، بل يجاهر فيه ، ولا يبالي بأعداء دعوته ما دام واثقاً من التغلب عليهم ، كما فعل عمر رضي الله عنه حين هاجر ، وفي ذلك دليل أيضاً على أن موقف القوة يرهب أعداء الله ، ويلقي الجزع في نفوسهم ، ولا شك أنهم لو أرادوا أن يجتمعوا على قتل عمر لاستطاعوا ، ولكن موقف عمر الجريء ألقى الرعب في نفس كل واحد منهم، فيخشي من تعرض له أن تثكله أمه ، وأهل الشر ضنينون بحياتهم ، حريصون عليها .
2- حين ييأس المبطلون من إيقاف دعوة الحق والإصلاح وحين يفلت المؤمنون من أيديهم ويصبحون في منجى من عدوانهم ، يلجؤون آخر الامر إلى قتل الداعية المصلح ، ظناً منهم أنهم إن قتلوه تخلصوا منه ، وقضوا على دعوته ، وهذا هو تفكير الأشرار أعداء الاصلاح في كل عصر ، وقد شاهدناه ورأينا مثله في حياتنا .
3- إن الجندي الصادق المخلص لدعوة الاصلاح ، يفدي قائده بحياته ، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة ، وفي هلاكه خذلانها ووهنها ، فما فعله علي رضي الله عنه ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي رضي الله عنه انتقاما منه ، لأنه سهل لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاة ، ولكن علياً رضي الله عنه لم يبال بذلك ، فحسبه أن يسلم رسول صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وقائد الدعوة .
4ـ وفي ايداع المشركين ودائعهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع محاربتهم له وتصميمهم على قتله ، دليل على أن أعداء الإصلاح يوقنون في قراره نفوسهم باستقامة الداعية وأمانته ونزاهته ، وأنه خير منهم سيرة ،وأنقى سريرة ولكن العماية واللجاجة و الجمود على العادات والعقائد الضالة ،هو الذي يحملهم على محاربته ،ونصب الكيد له ، والتآمر على قتله إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً .
5- إن تفكير قائد الدعوة أو رئيس الدولة ، أو زعيم حركة الاصلاح في النجاة من تآمر المتربصين والمغتالين ، وعمله لنجاح خطة النجاة ليستأنف حركته أشد قوة ومراساً في ميدان آخر ، لا يعتبر جبناً ولا فراراً من الموت ، ولا ضناً بالتضحية بالنفس والروح .
6ـ في موقف عبد الله بن أبي بكر مايثبت أثر الشباب في نجاح الدعوات ، فهم عماد كل دعوة إصلاحية ، وباندفاعهم للتضحية والفداء تتقدم الدعوات سريعاً نحو النصر والغلبة ، ونحن نرى في المؤمنين السابقين إلى الاسلام كلهم شباباً ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمره أربعين سنة عند البعثة ، وأبو بكر رضي الله عنه كان أصغر منه بثلاث سنين ، وعمر رضي الله عنه أصغر منهما ، وعلي رضي الله عنه أصغر الجميع ،وعثمان رضي الله عنه كان أصغر من رسول الله صلى وسلم ، وهكذا كان عبدالله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف ، والأرقم بن أبي الأرقم و سعيد بن زيد ، و بلال بن رباح ، وعمار بن ياسر ، رضي الله عنهم ، وغيرهم ، كل هؤلاء كانوا شباباً حملوا أعباء الدعوة على كواهلهم ، فتحملوا في سبيلها التضحيات ، واستعذبوا من أجلها العذاب والألم والموت ، بهؤلاء انتصر الإسلام ، وعلى جهودهم وجهود إخوانهم قامت دولة الخلفاء الراشدين ، وتمت الفتوحات الإسلامية رائعة ، وبفضلهم وصل إلينا الإسلام الذي حررنا الله به من الجهالة والضلالة والوثنية والكفر والفسوق .
6- وفي موقف عائشة وأسماء رضي الله عنهما أثناء هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يثبت حاجة الدعوات الإصلاحية إلى النساء ، فهن أرق عاطفة ، وأكثر أندفاعاً ، واسمح نفساً ، وأطيب قلبا ، والمرآة إذا آمنت بشيء لم تبال في نشره والدعوة اليه بكل صعوبة ، وعملت على إقناع زوجها وإخوتها وأبنائها به ، ولجهاد المرأة في سبيل الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم صفحات بيضاء مشرقة ، تؤكد لنا اليوم أن حركة الإصلاح الإسلامي ستظل وئيدة الخطأ ، قليلة الأثر في المجتمع حتى تشترك فيها المرأة ، فتنشئ جيلا من الفتيات على الإيمان والخلق والعفة والطهارة ، هؤلاء أقدر على نشر هذه القيم التي يحتاج إليها مجتمعنا اليوم في أوساط النساء من الرجال ، عدا أنهن سيكن زوجات وأمهات ، وأن الفضل الكبير في تربية صغار الصحابة ثم التابعين من بعدهم يعود إلى نساء الاسلام اللاتي أنشأن هذه الاجيال على أخلاق الاسلام وآدابه ، وحب الاسلام ورسوله ، فكانت أكرم الأجيال التي عرفها التاريخ في علو الهمة ، واستقامة السيرة ، وصلاح الدين والدنيا .
إن علينا اليوم أن ندرك هذه الحقيقة ، فنعمل على أن تحمل الفتيات والزوجات لواء دعوة الإصلاح الإسلامي في أوساط النساء ،وهن أكثر من نصف الأمة وذلك يقتضينا أن نشجع بناتنا على تعلم الشريعة في معهد موثوق بحسن تدريسه للإسلام ، مثل كلية الشريعة في جامعتنا ، وكلما كثر عدد هؤلاء الفتيات العالمات بالدين ، الفقيهات في الشرعية ، الملمات بتاريخ الإسلام ، المحبات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، المتخلقات بأخلاقه وأخلاق أمهات المؤمنين ، استطعنا أن ندفع عجلة الإصلاح الإسلامي إلى الإمام دفعاً قوياً ، وأن نقرب اليوم الذي يخضع فيه مجتمعنا الإسلامي لأحكام الإسلام وشريعته ، وإن ذلك لواقع إن شاء الله .
7- وفي عمى أبصار المشركين عن رؤية رسول الله وصاحبه في "غار ثور " وهم عنده ،مثل تخشع القلوب من أمثلة العناية الإلهية برسله ودعاته وأحبابه ، فما كان الله في رحمته لعباده ليسمح أن يقع الرسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين فيقضوا عليه وعلى دعوته وهو الذي أرسله رحمة للعالمين ، وكذلك يعود الله عبادة الدعاة المخلصين أن يلطف بهم في ساعات الشدة، وينفذهم من المآزق الحرجة ،ويعمي عنهم ـ في كثير من الأحيان ـ أبصار المتربصين لهم بالشر والغدر ، وليس في نجاة الرسول وصاحبه بعد أن أحاط بهما المشركون في "غار ثور" إلا تصديق قول الله تبارك وتعالى : " إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيومَ يَقُومُ الأشْهَاد " [ غافر : 51 ] وقول الله تبارك وتعالى: ( إنَّ الله يُدَاِفعُ عَنِ الذَّينَ آمَنُوا) [الحج : 38 ] .
8- وفي خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون مثل لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق مع قائدة الأمين حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته ، فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه من الموت ، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم ، وعلى مستقبل الاسلام إن وقع الرسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين .
9- وفي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر تطمئناً له على قلقه " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما " مثل من أمثلة الصدق في الثقة بالله والاطمئنان إلى نصره ، والاتكال عليه عند الشدائد ، وهو دليل واضح على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوة النبوة ، فهو في أشد المآزق حرجاً ، ومع ذلك تبدو عليه امارات الاطمئنان إلى أن الله بعثه هدى ورحمة للناس لن يتخلى عنه في تلك الساعات ، فهل ترى مثل هذا الاطمئنان يصدر عن مدع للنبوة منتحل صفة الرسالة ؟ وفي مثل هذه الحالات يبدو الفرق واضحا بين دعاة الإصلاح وبين المدعين له والمنتحلين لاسمه ، وأولئك تفيض قلوبهم دائماً وأبداً بالرضي عن الله ، والثقة بنصره ، وهؤلاء يتهاوون عند المخاوف ،وينهارون عند الشدائد ، ثم لا تجد لهم من الله ولياً ولا نصيراً .
10- ويبدو لنا في موقف سراقة حين أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم وعجزه عن الوصول إليه دليل على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد كانت قوائم فرسه تسيخ في الرمل وهي متجهة صوب الرسول ، حتى إذا نزل عنها ووجهها شطر مكة نشطت من كبوتها ، فإذا أراد أن يعيدها كرة في اتجاه الرسول صلى الله عليه وسلم عادت إلى عجزها وكعها ، فترى هذا يقع إلا لنبي مرسل مؤيد من الله النصر والعون ؟ كلا ، وهذا ما أدركه سراقة ، فنادى الرسول بالأمان ، وأدرك أن للرسول صلى الله عليه وسلم من العناية الالهية ما تعجز عن ادراكه قوى البشر ، فرضى أن يخسر الجائزة ويفوز بالوعد .
11- وفي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم لسراقة بسواري كسرى معجزة أخرى ، فالأنسان الذي يبدو هارباً من وجه قومه لا يؤمل في فتح الفرس والاستيلاء على كنوز كسرى ، إلا أنه يكون نبياً مرسلا ، ولقد تحقق وعد الرسول صلى الله عليه وسلم له ، وطلب سراقة عمر بن الخطاب بإنفاذ وعد الرسول صلى الله عليه وسلم له حين رأى سواري كسرى في الغنائم ، فألبسهما عمر سراقة على ملأ من الصحابة ،وقال : الحمد لله الذي سلب كسرى سواريه ، وألبسهما سراقة بن جعشم الأعرابي . هكذا تتوالى المعجزات في هذه الهجرة واحدة بعد أخرى ليزداد المؤمنون ويستيقن الذين أوتوا الكتاب من المترددين والجاحدين أنه رسول من رب العامين .
12- كانت فرحة المؤمنين من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصوله اليهم سالماً فرحة أخرجت النساء من بيوتهن والولائد ، وحملت الرجال على ترك أعمالهم ، وكان موقف يهود المدينة موقف المشاركة لسكانها في الفرحة ظاهراً ، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطناً ، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم ، فلا عجب فيها ، وهو الذي أنقذهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط الله العزيز الحميد ، وأما موقف اليهود ، فلا غرابة فيه ، وهو الذي عرفوا بالملق والنفاق للجميع الذي فقدوا السيطرة عليه وبالغيظ والحقد الأسود ممن يسلبهم زعامتهم ، ويحول بينهم وبين سلب أموالهم باسم القروض وسفك الدماء باسم النصح والمشورة ، وما زال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم ، وينتهون من الحقد إلى درس المؤامرات ، ثم إلى الاغتيال إن استطاعوا ، ذلك ديدنهم، وتلك جبلتهم ، ولقد فعلوا مثل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استقراره بالمدينة ، برغم ما أمضاه بينه وبينهم من ميثاق على التعاون والتعايش بسلام ،ولكن اليهود قوم يشعلون نار الحروب دائماً وأبداً ، ( كُلَّمَا أَوقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله ) . [ المائدة : 64] .
13-من وقائع الهجرة إلى المدينة لنا أنه صلى الله عليه وسلم ما أقام بمكان إلا كان أول ما يفعله بناء يجتمع فيه المؤمنون فقد أقام مسجد قباء حين أقام فيها أربعة أيام ، وبني مسجداً في منتصف الطريق بين قباء والمدينة لما أدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن الوادي " وادي رانوناء " .
فلما أن وصل على المدينة ، كان أول عمل عمله بناء مسجد فيها ، وهذا يدلنا على أهمية المسجد في الاسلام ، وعبادات الاسلام كلها تطهير للنفس وتزكية للأخلاق ، وتقوية لأواصر التعاون بين المسلمين ، وصلاة الجماعة والجمعة والعيدين ، مظهر قوي من مظاهر اجتماع المسلمين ، ووحدة كلمتهم ، وأهدافهم ، وتعاونهم على البر والتقوى ، لاجرم أن كان للمسجد رسالة اجتماعية وروحية عظيمة الشأن في حياة المسلمين ، فهو الذي يوحد صفوفهم ، ويهذب نفوسهم ، ويوقظ قلوبهم وعقولهم ، ويحل مشاكلهم ، وتظهر فيه قوتهم وتماسكهم .
ولقد أثبت تاريخ المسجد في الإسلام أن منه انطلقت جحافل الجيوش الاسلامية لغمر الارض بهداية الله ، ومنه انبعثت أشعة النور والهداية للمسلمين وغيرهم ، وفيه ترعرعت بذور الحضارة الإسلامية ونمت ، وهل كان أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وخالد ، وسعد ، وأبو عبيدة ، وأمثالهم من عظماء التاريخ الاسلامي إلا تلامذة المدرسة المحمدية التي كان مقرها المسجد النبوي .
وميزة أخرى للمسجد في الإسلام أنه تنبعث منه في كل أسبوع كلمة الحق مدوية مجلجة على لسان خطيبه ، في إنكار منكر أو أمر بمعروف . أو دعوة إلى خير ، أو إيقاظ من غفلة ، أو دعوة إلى جميع ، أو أحتجاج على ظالم ، أو تحذير لطاغية ، ولقد شاهدنا في عهد الطفولة كيف كانت المساجد مراكز الانطلاق للحركة الوطنية ضد المستعمرين الفرنسيين ، يلجأ اليها زعماء الجهاد ضد الاستعمار وضد الصهيونية ، وإذا كنا نرى تعطيلها اليوم عن قيامها بوظيفتها الكبرى ، فما ذلك إلا ذنب بعض الخطباء من الموظفين المرتزقين ، أو الجاهلين الغافلين ، ويوم يعتلي منابرها ويؤم محاريبها دعاة اشداء في الحق ، علماء بالشريعة ، مخلصون لله ولرسوله ، ناصحون لأئمة المسلمين وعامتهم ، يعود للمسجد في مجتمعنا الإسلامي مكان الصدارة في مؤسساتنا الاجتماعية ، ويعود المسجد ليعمل عمله في تربية الرجال ، وإخراج الأبطال ، وإصلاح الفساد ، ومحاربة المنكر ، وبناء المجتمع على أساس من تقوى الله ورضوانه .
وإنا لنأمل ذلك أن شاء الله حين تحتل هذه الطليعة الطاهرة من شبابنا المؤمن المثقفة بدين الله المتخلقة بأخلاق رسول الله منابره وأرجاءه .
15ـ في مؤاخاة الرسول بين المهاجرين والأنصار أقوى مظهر من مظاهر عدالة الاسلام الانسانية الاخلاقية البناءة، فالمهاجرون قوم تركوا في سبيل الله أموالهم وأراضيهم ، فجاؤوا المدينة لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً ، والانصار قوم أغنياء بزروعهم وأموالهم وصناعتهم ، فليحمل الأخ أخاه ، وليقتسم معه سراء الحياة وضراءها ، ولينزله في بيته ما دام متسع لهما ، وليعطه نصف مالهما دام غنياً عنه ، موفراً له ، فأية عدالة اجتماعية في الدنيا تعدل هذه الأخوة ؟
إن الذين ينكرون أن يكون في الإسلام عدالة اجتماعية ، قوم لا يريدون أن يبهر نور الإسلام أبصار الناس ويستولي على قلوبهم ، أو قوم جامدون يكرهون كل لفظ جديد ولو أحبه الناس وكان في الإسلام مدلوله ، وإلا فكيف تنكر العدالة الاجتماعية في الإسلام وفي تاريخه هذه المؤاخاة الفذة في التاريخ ، وهي التي عقدها صاحب الشرعية محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه ، وطبقها باشرافه ، وأقام على أساسها أول مجتمع ينشؤه ، وأول دولة يبنيها
سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم .
16ـ وفي الكتاب الذي عقد فيه الرسول الاخوة بين المهاجرين والأنصار ، والتعاون بين المسلمين وغيرهم جملة من الأدلة التي لاترد على أن أساس الدولة الإسلامية قائم على العدالة الاجتماعية ، وأن أساس العلائق بين المسلمين وغيرهم هو السلم ماسالموا ، وان مبدأ الحق والعدل والتعاون على البر والتقوى والعمل لخير الناس ، ودفع أذى الأشرار عن المجتمع ، هو أبرز الشعارات التي تنادي بها دولة الإسلام ، وبذلك تكون الدولة الاسلامية أينما قامت ، وفي أي عصر نشأت قائمة على أقوم المبادئ واعدلها ،وهي تنطبق اليوم على أكرم المبادئ التي تقوم عليها الدول ، وتعيش في ظلها الشعوب ، وإن العمل في عصرنا هذا لاقامة دول في مجتمعنا الاسلامي ترتكز قواعدها على مبادئ الاسلام عمل يتفق مع تطور الفكر الانساني في مفهوم الدولة عدا أنه يحقق للمسلمين بناء مجتمع من أقوى المجتمات وأكملها وأسعدها وأرقاها .
وأياً ما كان فإن من مصلحتنا أن تبني الدولة عندنا على أساس الاسلام ، وفي ترك ذلك خراجنا ودمانا، والاسلام لا يؤذي غير المسلمين في الوطن الاسلامي ، ولا يضطهد عقائدهم ، ولا ينتقص من حقوقهم ، ففيم الخوف من إلزام الدول في البلاد الاسلامية بتنفيذ شرائع الاسلام وإقامة أحكامه وهي كلها عدل وحق وقوة وإخاء وتكفل اجتماعي شامل على أساس من الإخاء والحب والتعاون الكريم ؟ إننا لن نخلص من الاستعمار ، إلا بالمناداة بالاسلام ، وفي سبيل ذلك فليعمل العاملون(وَلَو أَنَّ أهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنا عَلَيْهمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) [ الأعراف : 96 ] ( وَأنَّ هَذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِه) [ الانعام : 153 ] ( وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوكَّلْ عَلى الله فََهُو حَسْبُهُ إنَّ الله بَالِغُ أمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيء قَدْراً ) [ الطلاق : 2 ] ( وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِن أمْرِهِ يُسْراً ) [ الطلاق : 4 ] ( وََمْن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أجْراً ) [ الطلاق : 5] .
صحيح البخاري جـ 3 صـ 1420