العرب يدمرون الكتب.. تعرف على تاريخنا فى حرق المؤلفات ودفنها وغسلها بـ الماء
وقعت خطيئة إبادة الكتب فى كل الثقافات، لا يمكن أن ننكر ذلك، كانت المؤلفات مصدر إزعاج للبعض خاصة للسلطات، والثقافة العربية كان لها نصيب كبير من التعامل مع الكتب، ومن ذلك ما يقوله كتاب "حرق الكتب فى التراث العربى" تأليف "ناصر الحزيمى".
يقول الكتاب فى المقدمة:
هذا جزء لطيف فى حجمه جمعت فيه بعض ما مرَّ بى من حوادث وأخبار إتلاف الكتب فى التراث العربى قصرته على نوعين فقط من الإتلاف:
النوع الأول: إتلاف السلطة للكتاب، وتتجلّى السلطة هنا بجميع أنماطها، وتحليلاتها، سواء كانت هذه السلطة تتمثّل بسلطة الحاكم، أو المجتمع، أو الفرد، أو تتمثّل بسلطة الأيديولوجيا، أو العادات والتقاليد، وكان لها دور فى إتلاف الكتاب ومطاردته ونفيه.
النوع الثانى: الإتلاف الشخصى للكتب، ويتمثّل بالإتلاف لأسباب علمية، أو اعتقادية، أو نفسية، وهو كثير فى تراثنا العربى والإسلامى.
ولعلّ البعض هنا سيستغرب أنّنا لم نتناول الإتلاف بسبب الحروب والقلاقل، والتلف بسبب الحوادث والكوارث، وهى أسباب لها دور كبير فى إتلاف الكتب، والسبب فى عزوفنا عن تناول ذلك يعود إلى أنّنا قصدنا إبراز السبب القصدى وراء إتلاف الكتب فى هذا الجزء، وابتعدنا عن الإتلاف الذى شمل الجميع من حروب وكوارث، خصوصًا وأنّ التلف الذى لحق الكتاب بسبب الحروب لم يقتصر على أمة دون أخرى، فالجميع أحرق والجميع أتلف وحتى هذه الساعة.
أسباب إتلاف الكتب
هناك عدة أسباب وراء إتلاف الكتب، من أبرزها ستة أسباب وهى: الشرعية، العلمية، السياسية، الاجتماعية والقبلية، النفسية، التعصبية.
الأسباب الشرعية:
يكاد يكون هذا السبب من أهم الأسباب التى أوردناها آنفًا بل، يكاد يكون السبب الرئيس فى ظاهرة إتلاف الكتب فى تراثنا الإسلامى والعربي، وعليه عُزِّز جانب الإجماع على أمر معيَّن، مثل الإجماع على (المصحف الإمام) وإحراق ما عداه من المصاحف. فالإجماع فى الشريعة الإسلامية يمثّل المصدر الثالث بعد القرآن الكريم والسنة عند جمهور علماء السنة، وعليه فالإجماع على اتباع المصحف الإمام وإحراق ما عداه يُقاس عليه اتباع الكتاب والسنة وإتلاف ما عداهما من كتب الرأى أولًا، ثم انسحاب هذا الموقف على كتب أخرى فيما بعد، حيث سيسهل إتلاف كتب العلوم الأخرى، والإفتاء بذلك من قبل بعض العلماء.
يقول ابن قيم الجوزية فى الطرق الحكيمة
وكذلك لا ضمان فى تحريق الكتب المضلّة وإتلافها، قال المروزى قلت لأحمد استعرت كتابًا فيه أشياء رديئة ترى أن أخرقه أو أحرقه؟ قال نعم، وقد رأى النبى صلى الله عليه وسلم بيد عمر كتابًا اكتتبه من التوراة وأعجبه موافقته للقرآن فتمعّر وجه النبى صلى الله عليه وسلم حتى ذهب به عمر إلى التنور فألقاه فيه.
وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبى وذكر وضع الكتب فقال: أكرهها! هذا أبو فلان وضع كتابًا؛ فجاء أبو فلان فوضع كتابًا، وجاء فلان فوضع كتابًا، فهذا لا انقضاء له كلما جاء رجل وضع كتابًا، وهذه الكتب وضعها بدعة، كلما جاء رجل وضع كتابًا وترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ليس إلا الاتباع والسنن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعاب وضع الكتب، وكرهه كراهة شديدة. وقال المروزى فى موضع آخر قال أبو عبد الله يضعون البدع فى كتبهم إنّما أحذّر عنها أشد التحذير.
قلت إنّهم يحتجّون بمالك أنّه وضع كتابًا، فقال أبو عبد الله: هذا ابن عون والتيمى ويونس وأيوب هل وضعوا كتابًا؟ هل كان فى الدنيا مثل هؤلاء؟ وكان ابن سيرين وأصحابه لا يكتبون الحديث فكيف الرأى وكلام أحمد فى هذا كثير جدًا. ذكره الخلال فى كتاب العلم.
ومسألة وضع الكتب فيها تفصيل ليس هذا موضعه، وإنّما كره أحمد ذلك ومنعه منه، لما فيه من الاشتغال به، والإعراض عن القرآن والسنة والذب عنهما، وأما كتب إبطال الآراء والمذاهب المخالفة لهما فلا بأس بها، وقد تكون واجبة مستحبة ومباحة بحسب اقتضاء الحال والله أعلم.
والمقصود من هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها، وهى أولى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعارف وإتلاف آنية الخمر؛ فإنّ ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فى كسر أوانى الخمر وشقّ زقاقه…] وقد أحرق نعيم بن حماد سماعه من إبراهيم بن أبى يحيى أبى إسحاق الأسلمى المدنى قال نعيم: [أنفقت على كتبه خمسة دنانير، ثم أخرج إلينا يومًا كتابًا فيه القدر وكتابًا فيه رأى مهم، فقرأته فعرفت، فقلت: هذا رأيك! قال: نعم]. فحرقت بعض كتبه وطرحتها.
ومزّق ابن المبارك ما كتب عن ثابت بن أبى صفية بسبب سوء اعتقاد ابن أبى صفية فى عثمان رضى الله عنه.
وأحرق أبو جعفر النفيلى ما كتب من حديث عن أبين بن سفيان المقدسى حينما تبيَّن له أنّه مرجئ.
السبب العلمي:
وهذا السبب من الأسباب الدقيقة التى لا يفقهها إلا من أدمن المطالعة لكتب التراجم وعلم الأسانيد، ولا بأس أن نقرب هذا السبب، وهو أنّهم فى مرحلة الجمع والتدوين والإملاء، كان الشيخ يُملى على تلاميذه المادة، وغالبًا هى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكان التلاميذ يحضرون عند الشيخ بجميع عدة الاستملاء؛ فيكتبون عنه وتُضبط أسماء هذا المجلس فى محضر يُحفظ عند الشيخ، وعند تلاميذه الذين يريدون نفس هذا المحضر؛ فيعرف من حضر وسمع ومن لم يحضر، وتاريخ السماع. هذا المحضر وما سمعه التلميذ يطلق عليه (أصل السماع) ولأنّهم يخشون أن يزوّر أحد الكذابين هذا الأصل، بحيث يكشط اسم أحد التلاميذ ويضع اسمه فى مكانه؛ كان العلماء يتلفون هذه الأصول فى حياتهم، أو يوصون بإتلافها بعد وفاتهم. وهذا ما سلكه أغلب علماء الحديث صيانة للحديث النبوي، والأمثلة على ذلك كثيرة. وهنالك جانب آخر من جوانب الإتلاف لأسباب علمية، وهو مخالفة الشرط العلمى فى الرواية والتلقّي، حيث نجد أنّ مخالفة الشروط العلمية فى بعض الأحيان مدعاة لإتلاف الكتب.
قال يحيى بن معين: بالعراق كتاب ينبغى أن يُدفن تفسير الكلبي، عن أبى صالح. وبالشام كتاب ينبغى أن يُدفن كتاب الديات لخالد بن يزيد بن أبى مالك، لم يرض أن يكذب على أبيه حتى كذب على الصحابة
السبب السياسي:
من أقدم الأسباب السياسية لإتلاف الكتب التى مرّت علينا أثناء جمعنا لمادة هذا الكتاب واقعةٌ حدثت فى المدينة سنة 82 هـ؛ حيث أُحرق كتاب يحتوى على فضائل الأنصار، وأهل المدينة خشى عبد الملك بن مروان أن يقع بيد أهل الشام فيعرفوا لأهل المدينة فضلهم، وهو خلاف ما عممه عنهم بنو أمية فى الشام.
السبب الاجتماعى والقبلي:
يقول الوزير جمال الدين القفطى فى كتاب [أنباه الرواة على أنباه النجاة] فى ترجمته لابن الحائك الحسن بن أحمد الهمداني: [وكتابه فى معارف اليمن وعجائب أهله، المسمّى (بالإكليل) وهو عشرة أجزاء، وهو كتاب جليل جميل عزيز الوجود لم أرَ منه إلا أجزاء متفرقة، وهى على تفرُّقها تقرب من نصف التصنيف وصلت فى جملة كتب الوالد المخلّفة عنه حصّلها عند مقامه هناك، وقيل إنّ هذا الكتاب يتعذَّر وجوده تامًا، لأنّ المثالب المذكورة فيه، فى بعض قبائل اليمن… وأعدم أهل كل قبيلة ما وجدوه من الكتاب، وتتبعوا إعدام النسخ منه، فحصل نقصه لهذا السبب.
ومثل هذه الواقعة كثيرًا ما وقعت، حيث تتبع آثار مؤلفين وشعراء ذكروا بالذم، أو الهجاء أهل بلد، أو قبيلة معينة، فتُتلف كتبهم حتى يعتريها النسيان.
السبب النفسي:
خير مثال على هذا السبب هى واقعة إحراق أبى حيان التوحيدى لكتبه، والتى تناولناها بالبسط. وهناك واقعة أخرى وقعت لأحد الشعراء حيث غسل قصيدة من شعره بسبب الغيظ وحدة الانفعال. وقد ذكرنا هذه الواقعة فى هذا الكتاب فى ترجمة أحمد بن محمد النامى الدرامي.
السبب التعصبي:
كثيرًا ما فعل التعصب والجهل أفاعيله فى تراثنا العربي، فأتى على الأخضر واليابس عبر عدة أنساق منها الاجتماعي، ومنها الدينى ومنها المذهبي، أو العرقى ومنها السياسى إلى غير ذلك من أنساق تعصبيه كان لها دور فى إتلاف كتب التراث، كما حدث مع كتاب "النصرة لمذهب إمام دار الهجرة" تأليف الإمام القاضى عبد الوهاب بن نصر البغدادى المالكي، حيث وقع بيد بعض قضاة الشافعية بمصر فغرّقه فى النيل بسبب التعصب المذهبي.
طرق إتلاف الكتب:
تعدّدت طرق إتلاف الكتب فى تراثنا، إلا أنّها لم تخرج عن أربع طرق معروفة ومعهودة وهي: إتلاف الكتب بالحرق، إتلاف الكتب بالدفن، إتلاف الكتب بالغسل بالماء والإغراق، إتلاف الكتب بالتقطيع والتخريق.
الإتلاف بالحرق:
تعتبر هذه الطريقة من أشهر طرق إتلاف الكتب، حيث استعملت غالبًا فى الساحات العامة، وغالبًا هى طريقة السلطة فى التعبير عن رفضها العلنى لكتب، وأفكار معينة، وسيمرّ علينا فى المسرد التاريخى ما يدل على استعمال السلطة لهذه الطريقة غالبًا.
الإتلاف بالدفن:
يغلب على هذه الطريقة الإتلاف الفردى للكتب الخاصة، ولا أعرف نصًا ينصُّ على أنّ السلطة قد مارست إتلاف الكتب بالدفن، بل غالبًا هى إحراق أو إغراق أو تقطيع.
الإتلاف بالغسل والإغراق:
مُورست هذه الطريقة غالبًا فى الإتلاف الفردى للكتب، وهى السائدة هنا حيث كان بعضهم يُغرق كتبه فى البحار، أو الأنهار؛ أو يعمل على غسلها للاستفادة مرة أخرى من الورق.
الإتلاف بالتقطيع والتخريق:
تُعتبر هذه الوسيلة من أقلّ الوسائل المستعملة فى إتلاف الكتب، واستعملت غالبًا من قبل السلطة.