سورة الانشقاق مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ (1) وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ (2) وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ (3) وَأَلۡقَتۡ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتۡ (4) وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ (5) يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ (7) فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ حِسَابٗا يَسِيرٗا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورٗا (9) وَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ وَرَآءَ ظَهۡرِهِۦ (10) فَسَوۡفَ يَدۡعُواْ ثُبُورٗا (11) وَيَصۡلَىٰ سَعِيرًا (12) إِنَّهُۥ كَانَ فِيٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورًا (13) إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) بَلَىٰٓۚ إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِيرٗا (15) فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ (16) وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ (18) لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٖ (19) فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقُرۡءَانُ لَا يَسۡجُدُونَۤ۩ (21) بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونِۭ (25) ﴾
ما ورد في شأنها:
عن أبي رافع
قال : صليت مع أبي هريرة رضى الله عنه العتمة
فقرأ : "
إذا السماء انشقت " فسجد ... فقلت له.. فقال
سجدت خلف أبي
القاسم ﷺ فلا
أزال أسجد بها حتى ألقاه. متفق عليه
وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال سجدنا مع رسول الله ﷺ في " إذا السماء
انشقت " و " اقرأ باسم ربك الذي خلق ".
رواه مسلم
التفسير
﴿إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ﴾ وذلك يوم القيامة إذا السماء تصدعت وتقطعت فكانت أبوابًا.
وهو كقوله
تعالى: ﴿وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ
وَاهِيَةٌ﴾ الحاقة 16
وقوله: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ
الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾الفرقان
25
﴿وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا
وَحُقَّتۡ﴾ أي سمعت
أمر ربها بالانشقاق وأطاعته وحق لها أن
تطيع ؛ لأنَّ الذي أمرها هو الله خالقها
سبحانه.
و الأذن : الاستماع، ومنه
قول النبي ﷺ : " ما أذن الله لشيء كأذنه
لنبي يتغنى بالقرآن" متفق عليه.
يعني بذلك: ما
استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن
وحُق فلانٌ
بكذا، أي توجَّه عليه حقٌّ.
﴿وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ ﴾أي بسطت وفرشت ووسعت ،ومدَّها الله تعالى حتى صارت واسعة
جدًا ،تسع أهل الموقف على كثرتهم، ويُزال ما عليها من جبال ونحوه.
﴿وَأَلۡقَتۡ مَا فِيهَا
وَتَخَلَّتۡ﴾ أي: ألقت ما
في بطنها من الموتى والكنوز وغيره إلى ظهرها، وتخلَّت منهم، فلم يبقى مما في باطن
الأرض شيءٌ، كما في قوله تعالى: ﴿ وَأَخْرَجَتِ
الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ الزلزلة: 2
﴿وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا
وَحُقَّتۡ﴾ أي سمعت لربها وأطاعته .
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ
إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا﴾ أى ساعٍ إلى ربك سعيًا ، بجد ومشقة،
فتكدح كدحًا يوصلك إلى ربك، كقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ إِلَىٰ
رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ ﴾النجم
42 وقوله : ﴿إِنَّ إِلَيْنَا
إِيَابَهُمْ ﴾ الغاشية 25
﴿فَمُلَٰقِيهِ﴾ أي: مُلاقٍ، لا مفرَّ لك من لقائه، أو مُلاقٍ جزاء عملك خيرًا كان أو
شرًّا.
والكدح:
عمل الإنسان وجهده في الأمر من الخير والشَّرَّ حتى يكدح ويؤثر ذلك فيه.
﴿فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ
كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِ﴾ أي: من أُوتي ديوان أعماله بيده
اليمنى.
﴿فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ
حِسَابٗا يَسِيرٗا﴾ أي: يُعرَّف ذنوبه، ثم يتجاوز له عنها.
وقد أخرج
البخاري ومسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله : " ليس أحدٌ يحاسب إلا
هلك"، فقلت: أليس يقول الله : ﴿فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ (7)
فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ حِسَابٗا يَسِيرٗا﴾؟ قال: " ليس ذلك بالحساب، ولكن ذلك العرض، ومن نوقِش الحساب
هَلَكَ".
﴿وَيَنقَلِبُ إِلَىٰٓ
أَهۡلِهِ﴾ يعني
في الجنة من الحور العين والآدميات ﴿مَسۡرُورٗا﴾ لأنه نجا من العذاب، وبما أوتي من الخير والكرامة.
والانقلاب: الرجوع إلى المكان الذي
جيء منه.
﴿وَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ
كِتَٰبَهُۥ وَرَآءَ ظَهۡرِهِۦ﴾ فتٌغلُّ يده اليمنى إلى عُنُقه،
وتُجعل يدُهُ الشمال وراء ظهره، فيُؤتي كتابه بشماله من وراء ظهره، إشارة إلى أنه قد ولَّى ظهره كتب
الله ﷻ ، ولم يبال به، ولم يرفع به رأسًا، فعوقب
من جنس عمله.
﴿فَسَوۡفَ يَدۡعُواْ
ثُبُورٗا﴾ أي: ينادي بالويل
والهلاك إذا قرأ كتابه، فيقول واثبوراه واويلاه وهى كلمات عن الندم
والحسرة، كقوله تعالى: ﴿دَعَوْا
هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ الفرقان: 13
﴿وَيَصۡلَىٰ سَعِيرًا ﴾ أي: و يدخل النار حتى يصلى حرَّها ، كقوله: ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ﴾الأعلى 12
﴿إِنَّهُۥ كَانَ فِيٓ
أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورًا﴾ أي: في الدنيا، فلم يخطر البعث على
باله، وقد أساء.
﴿إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن
يَحُورَ﴾ أي : ظنَّ أن لن يرجع حيَّا مبعوثًا، فيحاسب، ثم
يثاب أو يعاقب.
والحَوْرِ: هو
الرجوع ، ومنه قول النبى ﷺ: "اللهم انى أعوذ بك من
الحَوْرِ بعد الكَوْرِ" رواه مسلم.
أى: الرجوع الى النقصان بعد الاكتمال
﴿بَلَىٰٓۚ
﴾ أي: ليس الأمر كما ظنَّ، بل سيحور إلينا ويرجع.
﴿إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ
بَصِيرٗا﴾ قبل أن يخلقه ، عالمًا بأن مرجعه إليه، وعالمًا
بما سبق له من الشقاء والسعادة.
فوائد الآيات:
1- الكتاب، هو صحيفة الأعمال
وديوانها، وجعل الله إيتاء المؤمن إياه ييمينه شعارا للسعادة لما هو متعارف عليه من أن اليد اليمني تتناول الأشياء
الزكية، وهذا في غريزة البشر.
2- قوله
تعالى: ﴿وَيَنقَلِبُ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورٗا﴾ في هذا التركيب تمثيل لحال المحاسب حسابًا يسيرًا في المسرَّة والفوز
والنجاة بعد العمل الصالح في الدنيا، بحال المسافر لتجارة حين يرجع إلى أهله
سالمًا رابحًا؛ لما في الهيئة المشبه بها من السُّرور بالفوز والسلامة ولقاء
الأهل.
3- في
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِيرٗا﴾ إشارة إلى حكمة البعث للجزاء؛ لأن ربَّ الناس عليمٌ بأحوالهم بصيرٌ بها، فليس من الحكمة أن يذهب
المفسد بفساده وما ألحقه بالخلق وغيرهم من مضارَّ، وأن يُهمل صلاح المصلح، فجعل الله
الحياة الأخروية الأبدية، وجعلها للجزاء على ماقدم
صاحبها في حياته الأولى.
التفسير:
﴿فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ
﴾ "لا" اداة
اثبات وهى توجد فى الكثير من الايات وليست اداة نفى كما يظن البعض انما هى اداة
اثبات وجاءت هنا للتنبيه والتوكيد "الشفق " هو حمرة الأفق إما قبل طلوع الشمس
وإما بعد غروبها كما هو معروف عند أهل اللغة وهو قول المفسرين جميعا (كما قال
الواحديُّ)
﴿ وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ ﴾ أقسم الله بالنهار مدبرا وبالليل مقبلا ..والليل وما جمع وضم ما كان
بالنهار منتشرا من الدواب وذلك أن الليل إذا أقبل أوى كل شيء إلى مأواه.
﴿ وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ
﴾ أي: اجتمع وتكامل وتمَّ بدرًا.
﴿لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن
طَبَقٖ ﴾ هذا هو المقسم
عليه، أي : لتركبُنَّ أحوالاً وأطوارًا متغيِّرة متباينة، حالاً بعد حال، من
النطفة إلى العلقة، إلى المضغة، إلى نفخ الروح، ثم يكون وليدًا وطفلاً ثم مميزا،
ثم يجري عليه قلم التكليف، وهكذا إلى أن يموت، ثم ينتقل إلى الدار الآخرة.
﴿فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ
﴾ يعني : أي شيءٍ يمنعهم من الإيمان، وماذا عليهم لو آمنوا
بالله ورسله واليوم الآخر، وبما جاء به
القرآن، ممايجب الإيمان به؟!
﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقُرۡءَانُ
لَا يَسۡجُدُونَۤ۩ ﴾ أي: لا يخضعون لله عزوجل، فالسجود
هنا بمعنى الخضوع لله تعالى، سواء سجد على الأرض أم لم يسجد، لكن يسجد القلب ويلين
ويذلُّ.
﴿ بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ
يُكَذِّبُونَ ﴾ أي: يعاندون الحق بعد
ما تبين، فلا يستغرب عدم إيمانهم وعدم انقيادهم للقرآن، فالتكذيب طبعهم الأصيل.
﴿وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا
يُوعُونَ ﴾ أي : بما يجمعونه في
صدورهم، ويضمرونه في أنفسهم، وينوونه سِرًّا، فالله يعلم سرهم وجهرهم، وسيجازيهم
بأعمالهم.
﴿فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ ﴾ أي:
أخبرهم بعذاب شديد الإيلام.
وسميت البشارة بهذا؛ لأنها تؤثر في البشرة سرورًا أو غمًّا.
﴿ إِلَّا ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونِۭ ﴾ هذا
فريق آخر هداهم الله، قبلوا ما
جاءهم به
الرسل ، فآمنوا وعملوا الصالحات ، فهؤلاء لهم أجرٌ غير مقطوع، بل دائمٌ.
فوائد الآيات:
فى قول الله تعالى ﴿لَتَرۡكَبُنَّ
طَبَقًا عَن طَبَقٖ ﴾ أن الاحوال التى يمر بها
الانسان تتغير فهى تشمل أحوال الزمان وأحوال المكان وأحوال الأبدان وأحوال القلوب:
الأول: أحوال الزمان كما قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ آل
عمران: 140
الثاني: أحوال الأمكنة فينزل الإنسان
هذا اليوم منزلاً وفى اليوم الآتى منزل آخر وثالثًا ورابعًا الى أن تنتهى به
المنازل فى الآخرة.
الثالث: أحوال الأبدان وهى ان الانسان يركب فيها طبقًا عن طبق كما قال تعالى ﴿ ۞ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ الروم: 54
الرابع: أحوال القلوب فكل قلوب بني آدم
بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
𒄬 فائدة لغوية: في قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ ﴾ ما يعبر عنه العلماء بقولهم: استثناء منقطع، بأن يكون المستثنى ليس من جنس المستثني منه، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات غير داخلين ابتداءً في المبشرين بالعذاب، ولا من جنسهم؛ حتى يُستثنوا منهم ! ولكن التعبير على هذا النحو أشد إثارة للانتباه إلى الأمر المستثنى.
𒄬استدل بعض العلماء بقوله: ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقُرۡءَانُ
لَا يَسۡجُدُونَۤ۩ ﴾ على وجوب سجود التلاوة.
والصحيح: أنه ليس بواجب بل
سنة مؤكدة؛ وذلك أنه ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه خطب الناس يومًا فقرأ سورة النحل، فلما وصل آية السجدة نزل من
المنبر فسجد، ثم قرأها من الجمعة الثانية فمر بها ولم يسجد، فقال رضى الله عنه : " إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء "
وكان
ذلك بمحضر من الصحابة رضى الله عنه ولم ينكر عليه أحدٌ.